Uncategorizedالمقالات

قبل عامين.. عبّأنا رفات الأمم المتّحدة في حقائبنا وانطلقنا

حرّية الشعوب وحقّ تقرير المصير وألوف الشعارات المفرَّغة والقِيَم المجرَّدة التي لا زالت تتغنّى بها الأمم المتّحدة إلى اليوم.. جميعها لم تشفع للألوف في إبقائهم في منازلهم وعدم اقتلاعهم كأشجار من تراب وطن ضاق بأبنائه فلم يَعُدْ يتّسع للأحرار منهم، فحزموا بقايا أمتعتهم وجراح أمانيهم وهُجِّروا إلى الشمال المحرَّر، فقط لأنّنهم طالبوا بسقوط مجرم أفرط في سفك دماء شعب قرّر أن يكسر قيد القهر المفروض عليه منذ أكثر من خمسين عاماً.

 

في( السابع من أيار مايو/ 2018م ) تجمّع الألوف من أبناء ريف حمص الشمالي رجالاً ونساء وشيوخاً وأطفالاً على جسر مدينة الرستن فوق نهر العاصي “الشاهد النزيه الوحيد على الجريمة”.. تجمّعوا بعد اتفاقية سوداء نصّت على تهجير من لا يقبل بالعودة إلى رحى حكم أسد والمحتلّ الروسي الذي نفّذ بطائراته مئات الغارات الجوية على المدنيين في المدينة ليرغمهم على قَبول التهجير -وهذا ما حصل-.

 

للمرّة الأولى منذ ستّ سنوات انكسر الحصار بخطوات مريرة نحو عتبة مدخل المدينة من الجهة الشمالية، لقد كسرنا الحصار منفردين نحو حافلات تاهت بنا في غَلَس الليل ومتاهات الفراق، فلم تجد الأمم المتّحدة في قواميس إنسانيتها الطافحة بالمبادئ ما تقدّمه لنا يومها سوى بعض أرغفة الخبز وأكواب ماء ونحن على أبوب فراق التراب الذي احتضن ألوف الشهداء الذين قدّموا أجسادهم جسوراً يمشي عليها فجر الحرّية نحو بزوغه ليعلن طلوع الصبح…

 

أخذ كلّ مهجَّر فينا يُلقي نظرة الوداع الأخيرة إلى مدينته التي اشترك العالم كلّه بجريمة تهجيره منها بعد أن تقاسموا الأدوار ما بين منفّذ وخائن ومتغاضٍ ومؤيِّد.

 

الساعة التاسعة مساءً.. الأمواج البشرية تنتظر موعد الصعود إلى الحافﻻت، بدأت السماء تمطر بغزارة، قال بعضنا عن المشهد: إنّ حمص تبكي فراق آخر أبنائها الأحرار، فيما قال أحد الشيوخ المرافقين لنا: إنّه -المطر- زيادة في الابتلاء من الله، فحقائب المهجَّرين الطافحة بالأحلام المكسَّرة غرقت بمياه المطر وكذلك الألوف من الأطفال المساكين الذين كانوا يظنّون أنّهم في رحلة إلى حديقة ألعاب سرعان ما يعودون.

نظرت إلى مدينتي وشاهدت جزأها المكشوف على الميليشيات وتخيّلت كيف كانت تبدو للحاقدين عندما كانت تحرقها بنيران مدافعها ودبابّاتها، فقد كنت واقفاً تماماً في المكان التي كانت تقصف منه طيلة سنوات ستّ مضت.. صعدنا إلى الحافلات بعد عدة ساعات أمضيناها في جمع أكبر قدر من الأمال المحطَّمة على تخوم الفراق وبقايا أحلامنا التي لفظت أنفاسها الأخيرة في ذلك اليوم.

 

بعض المهجَّرين أدمن التهجير فالمسألة بالنسبة إليهم ليست أكثر من انتقال جغرافي من مكان إلى آخر، فأبناء مدينة حمص هذا هو التهجير الثالث لهم في الثورة فاعتادوا إبقاء حقائبهم مهيَّأة للرحيل في وطن عبثت به وتاجرت يد كلّ متسلّق و مُرابٍ وخائن فتحوّل إلى سلعة يتداولها مارقون يبست فيهم آخر عروق الحياء…

صعد جندي روسي إلى الحافلة وبدأ يتلو علينا بلغة عربية مكسَّرة شروط حمل السلاح في رحلتنا القسرية قائلاً: “إنّ كلّ مقاتل يُسمح له بحمل بندقية واحدة وثلاثة مخازن وسوى ذلك سيصادَر”، وابتسم محاولاً تقمّص شخصية الدليل السياحي اللطيف كأنّ بلاده لم تحرق الأخضر واليابس بطائراتها قبل أيام قليلة، حاول بتصرّفاته أن يقول لنا: “نحن الروس و مع أنّنا مجرمون لكنّنا أقلّ إجراماً من جنود الأسد، ثمّ إنّنا لسنا خائنين مثلهم”

 

انقضت آخر تفاصيل الوداع وبدأت الحافلات تشقّ العنان نحو مدينة قلعة المضيق، ولا شيء يُذكر على الطريق سوى بعض التجمّعات الطائفية لعدد من الرجال والنسوة الذين بدؤوا ينهالون علينا بالشتائم وعبارات النصر والصفير كأنهّم انتصروا بتهجيرنا لم يدرك هؤلاء الحاقدون الأغرار أنّ النصر عندما يكون مبنيّاً على الخيانة وعندما يكون على الأطفال والنساء.. لم يدركوا أنّهم سيقطفون ثماره علقماً وناراً تكويهم من كلّ صوب في مستقبلهم المجهول.

بقلم: الرائد محمد علوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق