أصالة الشعب السوري.. هذه شهادتي

أذكر هنا هذه الأمثلة الواقعية من أجل إحياء القيم الأصيلة، وتعزيز شعور الأمة الواحدة بين شعوبنا.
تعود معرفتي ببعض الإخوة السوريين من أيام الطفولة، حيث كان لأحد التجار الكبيسيين معمل للنسيج، وكان قد استقطب عدداً من الخبراء والعمال السوريين، وكان والدي وعمي وخالي في المعمل أيضاً، وكنا نسكن جميعاً في مجمع سكني جميل ومريح تابع للمعمل، وقد تبادلنا نحن وهم بعض الخبرات والعادات والأكلات الشعبية.
بعدها بسنين صارت أحداث حماة الدامية فلجأ إلى العراق عدد كبير من أهلنا السوريين، فأحببناهم وأحبونا، وكان منهم طلاب علم استوعبتهم آصفية الفلوجة حتى صاروا أعلاماً في تخصصاتهم، منهم الشقيقان الشيخ الدكتور عبد السميع الأنيس والشيخ الدكتور عبد الحكيم الأنيس، ومن ذلك اليوم فوالله ما لقيت سورياً واحداً ممن وفد إلينا في تلك المرحلة إلا وهو يعشق العراق والعراقيين، وقد كانوا بالآلاف، ولا زالوا يحتفظون بكل معاني الطيبة والوفاء.
وبعد أن حل الدمار في العراق سنة 2003، وكان القتل والتشريد لقيني أكثر من أخ سوري ممن استقبلهم العراق في الثمانينات، وهم يلحون عليّ أن أوصل لبعض جيرانهم وأصدقائهم العراقيين هناك بعض الهدايا أو المساعدات، بل أدهشني أن أحد أعلام سوريا الذي قدّر الله له أن يُتوفى في قطر ممن كانوا قد وفدوا إلى العراق في الثمانينات جاءني ابنه وقال إن والده ترك وصية بإيصال جزء من ماله إلى بعض أصدقائه ومعارفه العراقيين، مع أني متأكد أن أهله السوريين كانوا أحوج بكثير، لكنه الوفاء يا سادة ومعاني الأخوة الصادقة وإدراك قيمة تعزيز الثقة والمحبة بين أبناء الأمة الواحدة.
أذكر قبل ذلك مواقف ربما لم نسمع بمثلها إلا في التاريخ، لقد أقفلت الحدود بين العراق وسوريا أكثر من ربع قرن بسبب الخلافات السياسية، وكان بعض العراقيين يستثمرون أموالهم في سوريا قبل هذه القطيعة، ومنهم واحد من أعمامي وواحد من أخوالي، وبعد هذه المدة الطويلة وعدم وجود أي طريق للتواصل يئس الناس من أموالهم، وبعد فتح الحدود جاء شباب سوريون يسألون عن عمي وعن خالي، لأن آباءهم قد تُوُفوا وتركوا وصاياهم لشركائهم، وكانت المبالغ لا بأس بها.
هنا ألفت الانتباه أيضاً أن كثيراً من الشعوب تتقاطع وتتباغض لاختلاف سياسات حكامها، أما تجربة الشعبين الشقيقين فهي تجربة فريدة بحق؛ حرب إعلامية رسمية لربع قرن لم تستطع أن تهز شعرة واحدة من متانة العلاقات بين الشعبين الأصيلين العريقين، وحين فتحت الحدود كان كأنه يوم عيد، بل أكثر، وحينما قررت أن أقضي إجازتي الصيفية في سوريا آنذاك والله لم أستطع أن أفرق في مشاعري وعواطفي بين دمشق وبغداد ولا بين حلب والفلوجة.
وحتى لا أظلم أهلي العراقيين، فلقد استقبل أهلنا في الأنبار قبل سنوات مئات العوائل السورية الهاربة من براميل بشار، في نفس الفترة التي كانت مخيماتنا تغص بالمهجّرين العراقيين من أهالي الفلوجة وغيرها، فيحدثني بعض المشايخ والإخوة الأفاضل يقول: والله إننا كنا نؤثر (اللاجئ) السوري على أخيه العراقي، يقول: هؤلاء ضيوفنا، وعيب على ضيفنا يبات جوعان! وكانت المآذن تدعو الناس لذلك كلما وصل عدد من المهاجرين.
أما مواقف الشعب السوري من أشقائه الفلسطينيين واللبنانيين فلها قصة وقصص أخرى تكتب بماء الذهب، وأنا أدعو أشقاءنا الفلسطينيين واللبنانيين أن يدلوا بشهاداتهم ومشاهداتهم،
بقي أن أشير هنا إلى أن الشعب السوري عموماً لا يستجدي أحداً مهما ضغطتهم الظروف القاهرة، بل هم شعب كادح ويتمتع بذكاء ومهارات عملية عالية، ولذلك فهو يحيي المنطقة التي يوجد فيها حتى ولو كان بصفة (لاجئ)، مع أن هذا التوصيف لا يليق أبدا بمثل هذا الشعب الأصيل.
أنا هنا أتكلم عن المزايا العامة والغالبة، ولا أستطيع أن أزكّي كل فرد طبعاً، ولا حتى كل جهة، لكن إبراز هذه الجوانب الإيجابية الغالبة أعدّه جزءاً من واجب الوفاء لهذا الشعب المثخَن بالجراح، والذي آسف آسف أن أقول: إن العرب والمسلمين جميعاً قد قصّروا معه غاية التقصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
بقلم: د. محمد عياش الكبيسي